Friday, August 31, 2012


الإسلاميون والحريات المثقّفون العرب في عين العاصفة



من الأعمال التي انتشرت خلال الحراك النسائي ضد تعديل المادة المتعلقة بالمساواة في الدستور التونسي
من تونس إلى مصر، يواجه الفنانون والصحافيون كل يوم تيارات التكفير والشعبوية الدينية. اعتداءات بالجملة، واستدعاءات إلى المحاكم، وتقويض ممنهج لأسس الدولة المدنية. في هذا الملفّ نقدّم شهادات وآراء كتّاب وباحثين ومبدعين يطرحون نظرتهم إلى الواقع ورؤياهم من أجل المواجهة
عثمان تزغارت
تونس | يواجه الفنانون والمثقفون ورجال الإعلام في تونس حملات غير مسبوقة من المضايقات والاعتداءات. لم تنتظر هذه الهجمات وصول حركة «النهضة» الإسلامية إلى الحكم، بل بدأت محاولات أبلسة المثقفين باكراً. لم يكد يمر شهران على قيام الثورة، حتى تفجرت المواجهات بين النخب الثقافية و«قوى الظلام» من الهجوم السلفي على قاعة «أفريكا آرت» احتجاجاً على عرض فيلم «لا الله ولا سيدي» لنادية الفاني، إلى الاعتداء على السينمائي الطليعي النوري بوزيد على أيدي شباب «النهضة»، وإطلاق بعضهم نداءات علنية إلى تصفية صاحب «صفائح الذهب» (راجع شهادته).
ولا يكاد يمر أسبوع من دون أن تضجّ وسائل الإعلام باعتداء أو هجوم جديد على مثقفين وإعلاميين مناوئين للإسلاميين، إذ طاولت الاعتداءات عشرات الفنانين والكتاب والإعلاميين والجامعيين. وتحولت شبكات التواصل الاجتماعي التي لعبت دوراً لافتاً في إطاحة ديكتاتور قرطاج إلى ساحة للتكفير والتخوين.
الحبيب بلهادي، رفيق درب الفاضل الجعايبي وجليلة بكار في فرقة «فاميليا» المسرحية، ومدير قاعة «أفريكا آرت»، كان طرفاً في أول مواجهة ضد قوى «الردة الثقافية» في موطن الشابي. ما زالت هذه القاعة الثقافية المرموقة مغلقة بحجج بيروقراطية منذ الهجمة السلفية التي استهدفتها في نيسان (أبريل) من العام الماضي. يقول: «ما حدث من تجاذبات وهجمات على الثقافة والمثقفين خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، وما تشهده تونس منذ تولي السلطة الحالية من تضييقات على الإعلاميين واعتداءات على الفنانين والمثقفين، لم تأت من فراغ. بل كانت نتاج خطة مبيتة سعى الإسلاميون من خلالها، وعلى مدى أشهر، إلى جعل المطالبة بالحريات مرادفاً للكُفر في أذهان أنصارهم. وهذا يفرض علينا اليوم كمثقفين أن نسهم في بلورة ثقافة مقاومة من أجل الصمود في وجه تيارات التكفير والشعبوية الدينية، والتصدي لكلّ ما يشكل مساساً بالحريات أو تهديداً للمكتسبات الديموقراطية في البلاد». ويضيف أنّ «أحداً لن يثنينا عن الاستماتة في دفاعنا عن الحريات. لم ينجح في ذلك بورقيبة ولا بن علي سابقاً. ولن ينجح اليوم الغنوشي ومن معه».
كلام يصدّق عليه السينمائي النوري بوزيد، قائلاً إنّ «تركيبة السلطة الحالية تثير فيَّ الكثير من الخوف. لا أخاف على نفسي من التهديدات، فأنا مستعد للموت من أجل أفكاري، بل أخاف على مستقبل بلادي وأبناء بلادي. التضييقات الحالية لا تستهدف المثقفين فقط، ولا تهدّد الحريات فحسب، بل هي أخطر من ذلك. إنّها تشكّل تهديداً لتوازنات المجتمع بأكمله. وهي توزانات تشكّلت على مدى عقود، وإذا حصل الإخلال بها، فإنّ ذلك يهدّد بتقويض لحمة المجتمع التونسي. لذا، على كل القوى التقدمية أن تتصدى لهذا الخطر الداهم. ويجب أن نجعل أولويتنا الدفاع عن دعائم الدولة المدنية. من دونها لا يمكن أن يكون هناك أي فضاء للحرية أو التعددية أو الديموقراطية».
أما عن أسباب ضمور دور النخب الثقافية في تونس ما بعد الثورة، فيقول المسرحي توفيق الجبالي: «الأحداث المتتابعة منذ الثورة كشفت لنا أنّنا كنخب ثقافية وفنية، كان لدينا تصور افتراضي وخاطئ لمجتمعنا. نحن الآن نكتشف كل يوم شيئاً جديداً عن هذا المجتمع. هذا الأمر لا يجب أن يدفعنا إلى إعادة النظر في قناعاتنا وآليات تفكيرنا، لكنّه يتطلّب منّا مراجعة جذرية لآليات عملنا وأساليب تواصلنا مع مجتمعنا. ولعل هذه الهزة هي التي تفسِّر الكثير من الفراغ والاكتئاب حتى لا نقول اليأس الذي تعاني منه بعض نخبنا». ويضيف صاحب «هنا تونس»: «هناك اليوم مشروعان مجتمعيان في بلادنا، أحدهما حداثي والآخر أصولي. وداخل كل واحد من هذين المشروعين، هناك الكثير من التخبط وعدم التجانس في الرؤى والأفكار. وهذا نابع من كوننا نخوض تجربة جديدة، ونواجه واقعاً مغايراً بعد التحولات الجذرية التي جاءت بها الثورة. وهذا الوضع المستجد جعلني شخصياً أعيش مرحلة تأمل أسعى خلالها إلى قراءة وفهم هذا الواقع الجديد. ولا أعتبر نفسي عنصراً فاعلاً في الأحداث رغم أنّي كنت أول من قدّم عملاً مسرحياً بعد الثورة أثار مواضيع الديموقراطية والانتخابات وحق المواطنة وحرية القرار. لكنّني لا أؤيد انخراط النخب الفنية والثقافية حالياً بشكل مباشر في العمل السياسي، لأنني أعتقد أنّ دورنا ليس صناعة الحدث، بل إعادة صياغة الواقع من موقع نقدي. لكن هذه المسافة النقدية لا تمنعنا، بالطبع، من تثمين ومساندة كل القوى التقدمية والحداثية».
أما الإعلامي عبد الحليم المسعودي، الذي طالته حملات التكفير بسبب برنامجه الثقافي الجريء «مغربنا في التنوير والتحرير» الذي يقدمه على قناة «نسمة»، فيقول إنّ «المضايقات والقمع والرقابة التي فُرضت على المثقفين قبل الثورة جعلتهم يبتكرون واقعاً متخيلاً لا يتطابق مع حقيقة الواقع المعاش. وعلى المثقف اليوم أن يتخلى عن النرجسية والنخبوية، وأن ينزل إلى المعمعة مثله مثل أي مناضل أو مواطن معني بدعم الحركات المطلبية التي تدافع عن الحريات والتعددية. من واجب المثقفين أن ينخرطوا في الحراك المجتمعي والسياسي، حتى لا يفسحوا المجال لأعداء الحرية كي يستغلوا أجواء الحريات التي تمخضت عنها الثورات الشعبية، لتسميم الربيع الديموقراطي برؤى شعبوية من شأنها أن تؤسس لأشكال جديدة من التسلط».
امتداداً لهذا التصور، يقول الحبيب بلهادي: «انخراط المثقفين في العمل السياسي يجب أن يأخذ الآن أبعاداً متعددة. هناك النضالات الحزبية والنقابية والمجتمعية التي كانت للنخب الثقافية التقدمية على الدوام أدوار طليعية فيها. وهناك أيضاً تحديات جديدة في مجال التنمية الثقافية التي يجب أن تضطلع بها النخب الثقافية. بعدما أسقطت الثورة المضايقات التي كانت مفروضة علينا في السابق من النظام الديكتاتوري، يجب علينا اليوم أن نوصل الثقافة الى كل فئات الشعب، وخصوصاً الفئات المحرومة في المناطق النائية التي كانت سماد الثورة الشعبية. يجب أن نناضل لكي يكون للمواطن البسيط في سيدي بوزيد أو قفصة أو غيرهما من مناطق الداخل المهشمة دور ثقافة ومسارح وصالات سينما. هذا المسعى لن يسهم فقط في دمقرطة العمل الثقافي، بل سيكون أداة تنموية تخدم أهداف التشغيل وتسهم في محو الفوارق بين المدن الكبرى والأرياف، وفك العزلة عن المناطق التي كانت منسية ومهمشة في ظل النظام السابق. كما أنّ هذا المسعى سيلعب دوراً بالغ الأهمية في بناء جسور التواصل والتكامل بين الثقافة والتربية. فالتصدي للمد الأصولي والشعبوي لا يتأتى فقط من النضال السياسي أو المطلبي المباشر الذي لا ينبغي إغفاله أو الانتقاص من أهميته، بالطبع، وخصوصاً في مرحلة مفصلية مثل التي نشهدها، لكنه يجب أن يندرج أيضاً ضمن معركة معرفية وتوعوية طويلة الأمد».
النوري بوزيد له رأي مغاير وأقل تفاؤلاً في ما يتعلق بدور المثقفين. يقول: «لا يجب أن نتحدث عن نخب ثقافية في المطلق، كما لو كانت النخب نسيجاً متجانساً. الانتخابات الأخيرة تمخضت عن خيانة قطاع هام من النخب السياسية اليسارية والعلمانية لمبادئها، من أجل حسابات سياسية ضيقة دفعت بها إلى التحالف مع «النهضة». لو أنّ تلك النخب تحالفت مع باقي قوى اليسار، لأصبحت «النهضة» أقلية في المجلس التأسيسي. لكن الشعبوية دفعتها إلى التحالف مع الإسلاميين، متوهمة أنها بذلك تقترب من الشعب». إلا أن صاحب «ريح السد» يعود ويستدرك، قائلاً: «أنا من أوائل من نادوا بأن تنخرط القوى التقدمية في الحراك الشعبي، لكن الاقتراب من الشعب لا يجب أن يكون على حساب القيم والمبادئ التي نناضل من أجلها، التي تتمثل في الدفاع عن حريات التعبير والرأي والمعتقد، وعن قيم المواطنة والمساواة والعلمانية».
يوافق توفيق الجبالي هذا الرأي، ويضيف: «نحن كفنانين ونخب ثقافية، يجب أن نقف دوماً على الضفة المقابلة للسلطة، أياً كانت هذه السلطة. يجب أن يكون دورنا مرتكزاً باستمرار على الدفاع عن الحريات والديموقراطية والحق في الاختلاف. أما السؤال: إلى أي مدى يستطيع الإبداع الفني والثقافي أن يكون مؤثراً في المجتمع؟ فهو سؤال إشكالي مطروح حتى على الدول المتقدمة ذات الخبرة الأطول والتجربة الأعمق في هذا المجال». ويتابع: «نحن اليوم ندافع عن وجودنا كفنانين ومثقفين، كما فعلنا دائماً خلال مختلف الفترات والحقب، الصعبة أو الأقل صعوبة التي مررنا بها. نحن منسجمون مع أنفسنا، وندافع اليوم عن الحريات، مثلما دافعنا عنها سابقاً حين تصدينا للتسلط والديكتاتورية قبل الثورة. ولعل هذا المنطلق المبدئي هو الذي جعل حماستنا للثورة قصيرة الأمد، إذ وجب علينا بسرعة أن نأخذ مسافة نقدية عن الأحداث، لنحاول فهم واستيعاب المستجدات والتأقلم معها».
أما عن خصوصية الدور المنوط بالنخب الثقافية في ظل الأنظمة والحكومات ذات التوجه الإسلامي التي أفرزتها ثورات «الربيع العربي»، فيقول الصحافي والكاتب عبد الحليم المسعودي: «من حيث المبدأ، يُفترض بعمل المثقف أن يبقى ذاته، قبل الثورة أو بعدها، لأنّه عمل بعيد المدى يراهن على التراكم. لكن المرحلة الحالية لها خصوصيتها، فهي تقتضي من المثقفين مزيداً من التيقظ والحذر، لأنّ التهديدات التي تحدق بالحريات تملي عليهم واجب التفاعل مع كل القوى الحيّة في المجتمع من أجل الدفاع عن هذه الحريات». ويضيف: «بلداننا تحتاج اليوم إلى المثقف العضوي القادر على التفاعل مع الواقع الجديد، والانخراط في الحركات المطلبية التي تدافع عن التعدد والحرية والتسامح. وهذا لا يتحقق إلا إذا استطاعت النخب الثقافية أن تعيد النظر جذرياً في آليات تفكيرها وعملها، وتخرج من عزلتها، ومن الواقع الافتراضي الذي تعيشه، ونظرتها المتخيلة إلى المجتمع التي أفرزتها عهود التسلط السابقة التي حاصرت المثقفين وهمّشتهم، وحدّت كثيراً من قدرتهم على التفاعل مع مجتمعاتهم وناسهم. إذ كيف يمكن أن يكون للمثقف صوت مسموع ودور مؤثر، إذا لم يستمع إلى هموم شعبه، ولم يفهم كيف يفكر هذا الشعب وما هي انشغالاته؟».
ويذهب الحبيب بلهادي أبعد منذ ذلك، قائلاً: «على النخب الثقافية أن تعمل على نشر القيم الديموقراطية وترسيخها في الوعي الجماعي. وذلك لا يتأتى سوى من خلال نهضة فكرية ومواطنية شاملة. على المثقفين أن ينزلوا إلى المعمعة، وألا يستسلموا لمحاولات التهميش والإقصاء التي تريد أن تلغي أي دور مؤثر للنخب الثقافية من المشهد السياسي والاجتماعي. هذا النوع من الاقصاء الذي يطاول المثقفين لا يشكل خطراً على حرية التعبير والإبداع والفكر فحسب، بل أيضاً على مستقبل الديموقراطية في البلاد. محاولات إقصاء المثقفين وأبلستهم تندرج ضمن منحى شعبوي يهدّد بتقويض مبادئ التحرر والكرامة التي قامت عليها الثورات الشعبية العربية. وهذا الأمر يفضي إلى ولادة أشكال جديدة من التسلط والفاشية السياسية والفكرية».

No comments:

Post a Comment